قال – تعالى – :} أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ { [ الطور: 41 القلم : 47 ] وقال : } اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [ الأحقاف 4] وقال :} قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ { [ الأنعام :148] وكان من الطبيعي أن يعترف المشركون بأنهم لم يطلعوا على الغيب ، ولا وجدوا ذلك في كتاب من كتب الأنبياء ، ولا أخذوه من أهل العلم ، فقالوا : } بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا {
[ لقمان : 21] و} إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ { [ الزخرف :22 ] وبهذا الجواب تبين عجزهم وجهلهم معا ، فقيل لهم : إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فاسمعوا منه – سبحانه وتعالى – ما يقوله ويخبر به عن حقيقة شركائكم هؤلاء يقول – تعالى : } إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ { [ الأعراف : 194] أي إنهم لا يقدرون على شئ مما يختص بالله – سبحانه وتعالى – كما أنكم لا تقدرون عليه ، فأنتم وهم سواء في العجز وعدم القدرة ، ولذلك تحداهم بقوله : } فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [ الأعراف : 194 ] وقال – تعالى : } وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ { أي بقدر ما يكون من القشرة الرقيقة فوق النواة } إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ { [ فاطر : 13،14] وقال تعالى : } وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{20} أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ {
[ النحل 20،21] وقال – تعالى } أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{191} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ { [ الأعراف 191،192] وقال : } وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً { [ الفرقان :3] ثم رتب على عجز هؤلاء الآلهة ، وعدم قدرتهم على ما كانوا يزعمون ، وأن دعاءهم والرجاء منهم لغو وباطل لا فائدة فيه إطلاقاً ، وذكر لذلك بعض الأمثلة الرائعة ، وذلك مثلاً قال – تعالى : } وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ { [ الرعد : 14] ثم دعى المشركين إلى قليل من التفكير ، وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن الله – تعالى – هو خالق كل شئ ، وأن آلهتهم لم يخلقوا شيئاً ، ولا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً ، بل هم أنفسهم مخلوقون لله ، فقيل لهم : فكيف سويتم بين الله الخالق القادر وبين هؤلاء المخلوقين العجزة ؟ كيف سويتم بينهما في العبادة والدعاء ؟ فإنكم تعبدون الله وتعبدون هؤلاء ، وتدعون الله وتدعون هؤلاء } أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ { . فلما وجه إليهم هذا السؤال بهتوا ، وذهبت عنهم حجتهم ، فسكتوا وندموا ، ثم تشبثوا بأمر باطل ، قالوا : إن آباءنا كانوا من أعقل البشر ، معروفين بذلك فيما بين الناس ، قد اعترف بفضل عقولهم الداني والقاصي ، وهم كلهم كانوا على هذا الدين ، فكيف يمكن أن يكون هذا الدين ضلالاً وباطلاً ؟ ولا سيما وآباء النبي
وآباء المسلمين أيضاً كانوا على هذا الدين . فرد عليهم بأنهم كانوا مهتدين ، ولم يعرفوا سبيل الحق ، ولا سلكوه ويستلزم هذا أنهم كانوا ضالين ، لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، وقد قيل لهم بذلك أحياناً بالإشارة والكناية ، وأحيانا بالصراحة الكاملة ، مثل قوله – تعالى } إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ{69} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ {
[ الصافات : 69، 70 ] هذه من جهة ، ومن جهة أخرى أخذ المشركون يخوفون النبي
والمسلمين من آلهتهم ، يقولون : إنكم أسأتم الأدب إلى آلهتنا ببيان عجزهم ، فهم سوف يغضبون عليكم ، فتهلككم أبو تخبطكم لأجل ذلك ، وهذا كما كان الأولون يقولون لرسلهم :} إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ { . ورد على ذلك بتذكير المشركين وإلزامهم بما كانوا يشاهدونه ليلاً ونهاراً ، وهي أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تتحرك من أماكنها ، وتتقدم أو تتأخر شيئاً ، أو تدفع عن نفسها شراً ، فكيف تستطيع أن تضر المسلمين وتهلكهم ؟ } أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ { [ الأعراف : 195 ] . وضرب لهم بمثل هذه المناسبة بعض الأمثال الصريحة ، مثل قوله – تعالى } يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ { [ الحج :73] ومثل قوله – تعالى } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ { [ العنكبوت : 41] وقد بين بعض المسلمين عجزهم هذا بقوله : أرب يبول الثعبان يرأسه لقد ذل من بالت الثعالب فلما وصلت النوبة إلى مثل هذه المصارحة هاج المشركون وما جوا ، وسبوا المسلمين حتى سبوا ربهم الله – سبحانه وتعالى – فأما المسلمون فقد نهاهم الله – سبحانه وتعالى – عن معاودة ما يسبب ذلك ، وقال : } وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ { . وأما المشركون فقد قرروا إحباط الدعوة ، والصد عن سبيل الله بالضغط والقوة والعنف ، فقام كل كبير ورئيس بتعذيب من آمن من قبيلته ، وذهب جمع منهم إلى أبي طالب ليكف هو رسول الله
فأما تعذيبهم المسلمين فقد أتوا فيه بأنواع تقشعر لها الجلود ، وتتفطر منها القلوب . ·[FONT="] [/FONT] كان بلال بن رباح t مملوكاً لأمية بن خلف الجمحي ، فكان أمية يجعل في عنقه حبلاً ، ويدفعه إلى الصبيان ، يلعبون به ، وهو يقول : أحد أحد . وكان يخرج به في وقت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في الرمضاء ، وهي الرمل أو الحجر الشديد الحرارة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا يزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول أحد ، أحد . ومر به أبو بكر t يوماً وهو يعذب فاشتراه وأعتقه لله . ·[FONT="] [/FONT] وكان عامر بن فهيرة يعذب حتى يفقد وعيه ، ولا يدري ما يقول . ·[FONT="] [/FONT] وعذب أبو فكيهة – واسمه أفلح ، قيل : كان من الأزر ، وكان مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد ، وفي رجليه قيد من حديد ، فيجردونه من الثياب ، ويبطحونه في الرمضاء ، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك ، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل ، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وكانوا مرة قد ربطوا رجليه بحبل ، ثم جروه ، وألقوه في الرمضاء ، وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات ، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله . ·[FONT="] [/FONT] وكان خباب بن الأرت ممن سبي في الجاهلية ، فاشترته أم أنمار بنت سباع الخزاعية ، وكان حداداً ، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار ، كانت تأتي بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ليكفر بمحمد
فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً وتسليماً ، وكان المشركون أيضاً يعذبونه ، فيلوون عنقه ، ويجذبون شعره ، وقد ألقوه مراراً على فحم النار . ثم وضعوا على صدره حجراً ثقيلاً حتى لا يقوم . ·[FONT="] [/FONT] وكانت زنيرة أمة رومية ، أسلمت ، فعذبت في الله ، وأصيب في بصرها حتى عميت ، فقيل لها : أصابتك اللات والعزى ، فقالت : لا والله ما أصابتني ، وهذا من الله ، وإن شاء كشفه ، فأصبحت من الغد ، وقد رد الله بصرها ، فقالت قريش : هذا بعض سحر محمد . ·[FONT="] [/FONT] وأسلمت أم عبيس : جارية لبني زهرة ، فكان يعذبها مولاها الأسود بن عبد يغوث ، وكان من أشد أعداء رسول الله
ومن المستهزئين به . ·[FONT="] [/FONT] وأسلمت جارية عمرو بنن مؤمل من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ، هو يومئذ على الشرك ، فكان يضربها حتى يفتر ، ثم يدعها ، ويقول : الله ما أدعك إلا سآمة ، فتقول : كذلك يفعل بك ربك . ·[FONT="] [/FONT] وتذكر فيمن أسلمن وعذبن من الجواري : النهدية ، وابنتها وكانتا لا مرأة من بني عبد الدار . واشترى أبوبكر t هؤلاء الجواري ، وأعتقهن كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة ، وأبا فكيهة . وقد عاتبه أبوه أبو قحافة ، وقال : أراك تعتق رقاباً ضعافاً ، فلو أعتقت رجالاً جلداً لمنعوك . فقال :} فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى{14} لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى{15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى { وهو أمية بن خلف ، ومن كان على شاكلته }وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى{17} الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى{18} وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى{19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{20} وَلَسَوْفَ يَرْضَى{21} { وهو أبوبكر الصديق – رضي الله تعالى عنه وعمن أعتقهم ، وعن الصحابة أجمعين . ·[FONT="] [/FONT] وعذب عمار بن ياسر وأمه وأبوه – رضي الله عنهم – وكانوا حلفاء بني مخزوم ، فكان بنو مخزوم – وعلى رأسهم أبو جهل – يخرجونهم إلى الأبطح ، إذا حميت الرمضاء ، فيعذبونهم بحرها ، ويمر بهم رسول الله
فيقول :" صبراً آل ياسر موعدكم الجنة ، اللهم اغفر لآل ياسر " أما ياسر والد عمار – وهو ياسر بن عامر بن مالك العنسي المذحجي – فقد مات تحت العذاب . وأما أم عمار – وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة المخزومي ، وكانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ، فطعنها أبو جهل في قبلها بحربة ، فماتت ، وهي أول شهيدة في الإسلام . وأما عمار فثقل عليه لعذاب ، فإن المشركين تارة كانوا يلبسونه درعاً من حديد في يوم صائف ، وتارة كانوا يضعون على صدره صخراً أحمر ثقيلاً ، وتارة كانوا يغطونه في الماء ، حتى قال بلسانه بعض ما يوافقهم ، وقبله ملئ بالإيمان ، فأنزل الله } مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { . ·[FONT="] [/FONT] وعذب في الله مصعب بن عمير ، كان من أنعم الناس عيشاً ، فلما دخل في الإسلام منعته أمه الطعام والشراب ، وأخرجته من البيت ، فتخشف جلده تخشف الحية . ·[FONT="] [/FONT] وعذب صهيب بن سنان الرومي ، حتى فقد وعيه ، ولا يدري ما يقول . ·[FONT="] [/FONT] وعذب عثمان بن عفان ، كان عمه يلفه في حصير من ورق النخيل ، ثم يدخنه من تحته . ·[FONT="] [/FONT] وأوذي أبو بكر الصديق ، وطلحة بن عبيد الله ، أخذهما نوفل بن خويلد العدوي وقيل : عثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله ، فشدهما في حبل واحد ، ليمنعها عن الصلاة وعن الدين ، فلم يجيباه ، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان ، وسميا بالقرينين لكونهما قد شدا في حبل واحد . وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه ، وأخزاه ، وأوعده بإلحاق الخسارة الفادحة في المال والجاه ، وإذا كان الرجل ضعيفاً ضربه وأغرى به . والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال . كانت هذه الاعتداءات ضد الضعفاء المسلمين وعامتهم . أما من أسلم من الكبار والأشراف فإنهم كانوا يحسبون له حساباً ، ولم يكن يجترئ عليهم إلا أمثالهم من رؤساء القبائل وأشرافها ، وذلك مع قدر كبير من الحيطة والحذر .
فكان له من الشهامة والشرف والوقار ما وقاه الله به كثيراً من اعتداءات الناس . وقد كان يحوطه ويمنعه أبو طالب ، وكان سيداً مطاعاً معظماً في قريش ، ولا يستهان بذمته ولا تخفر ، كان من ذروة بني عبد مناف ، ولم تعرف لها قريش بل العرب إلا الإجلال والتكريم ، فاضطر المشركون بالنسبة للنبي
إلى اتخاذ خطوات سليمة ، واختاروا سبيل المفاوضات مع عمه أبي طالب ، ولكن مع نوع من أسلوب القسوة والتحدي .
فقد مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، وقالوا له :إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه . فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ، وردهم رداً جميلاً ، فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله
ماضياً في عمله ودعوته إلى الله ، فقد أكثروا ذكره وتذامروا فيه ، ثم مشوا إلى أبي طالب ، وقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا ، وشرفاً ، ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا . وعظم على أبي طالب هذا التحدي والإنذار ، فدعا رسول الله
وذكر له ما قالوه ، وقال له : أبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق ، فلما رأى رسول الله
ضعفه قال : يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته . ثم استعبر وبكى . وعادت إلى أبي طالب الرقة والثقة ، فقال : اذهب يا ابن أخي ! فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشئ أبداً .
ماض في عمله ، وأبو طالب قائم بنصرته . وهذا يعني أنه مستعد لفراقهم وعداوتهم ومنازلتهم في نصرة ابن أخيه محمد
فلبثوا ملياً يفكرون ويتشاورون ، حتى وصلوا إلى اقتراح غريب ، فقد جاءوا إلى أبي طالب ، ومعهم عمارة بن الوليد سيد شبابهم وأنهد فتى في قريش وأجمله ، فقالوا : يا أبا طالب خذ هذا الفتى ، فلك عقله ونصره ، واتخذه ولداً ، فهو لك ، وأسلم إلينا أبن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل . قال أبو طالب : والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله مالا يكون أبداً .
ولما فشلت قريش ويئسوا ، ورأوا أن الإنذار والتحدي والمساومة لم تجد نفعاً ، بدأوا بالاعتداءات على ذات الرسول
وزادوا في تعذيب المسلمين والتنكيل بهم . وحيث إن الرسول
كان معززاً محتشماً محترماً ، فقد تولى إيذاءه كبراء قريش ورؤساؤهم ، ولم يجترئ على ذلك أذنابهم وعامتهم . وكان النفر الذين يؤذونه في بيته أبا لهب ، والحكم بن أبي العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي – وكانوا جيرانه
فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان يطرحها في برمته إذا نصبت ، وكانوا إذا طرحوا عليه ذلك يخرج به على العود فيقف به على بابه ويقول : يا بني عبد مناف ! أي جوار هذا ؟! ثم يلقيه في الطريق . وكان أمية بن خلف إذا رآه همزه ولمزه . والهمز : الطعن والشتم علانية ، أو كسر العينين والغمز بهما . واللمز : العيب والإغراء . وكان أخوه أبي بن خلف يتوعد النبي
يقول : يا محمد إن عندي العود ، فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه . حتى قال له رسول الله
: بل أنا أقتلك إن شاء الله – وقد قتله يوم أحد – وجاء أبي بن خلف هذا يوماً بعظم بال رميم ، ونفخه في وجه رسول الله
. وجلس عقبة بن أبي معيط إلى النبي
وسمع منه ، فبلغ أبيا – وكان صديقه – فعاتبه ، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله
ففعل . أما أبو لهب فقد عاداه وآذاه من أول يوم ظهرت فيه الدعوة إلى الله . وكانت في عقد ابنيه عتبة وعتبية ابنتا رسول الله
رقية وأم كلثوم ، فقال لهما : رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا بنتي محمد ، وقالت زوجته أيضاً : طلقاهما فإنهما قد صبأتا ، فطلقاهما . وكانت زوجته هذه – وهي أم جميل أروى بنت حرب – أيضاً عدوة لدودة لرسول الله
ودعوته ، فكانت تأتي بالأغصان وفيها الشوك ، فتطرحها في سبيل رسول الله
بالليل ، حتى يعقر هو وأصحابه . وسمعت بنزول } تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ { فجاءت وفي يدها فهر – أي مل الكف من الحجارة – وهي تبحث عن رسول الله
وهو جالس مع أبي بكر عند الكعبة فأخذ الله ببصرها ، فلم تكن ترى إلا أبا بكر ، فقالت : أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، أما الله أني لشاعرة ثم قالت : مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما تراها رأتك ، فقال : ما رأتني لقد أخذ الله ببصرها . وكان مما تؤذي به قريش أنهم كانوا يسمون رسول الله
مذمما بدل محمد ، يشتمون بذلك ويسبون ، ولكن صرف الله ذلك عنه ، حيث إنهم كانوا يشتمون مذمما وهو محمد وكان الأخنس بن شريق الثقفي أيضاً ينال من رسول الله
وأما أبو جهل فكأنه كان قد تحمل عبء الصد عن سبيل الله . وقد كان يؤذي النبي
بقوله ، وينهاه عن الصلاة ، ويفخر ويختال بما فعل ، حتى شدد على رسول الله
وتوعده في يوم رآه يصلي ، فانتهره رسول الله
وأخذه بخناقه ، وهزه قال :} أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى { فقال : أتوعدني يا محمد ! والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً . وإني لأعز من مشى بين جبليها . وقال لرفقته يوماً : يعفر محمد وجه بين أيديكم ، قالوا : نعم . فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه . فأتى رسول الله
وهو يصلي زعم ليطأ رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ، ويتقى بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة ، فقال رسول الله
: لو دنا مني لا ختطفته الملائكة عضواًَ عضوا . وحاز مثل هذه الشقاوة عقبة بن أبي معيط ، فقد كان رسول الله
يصلي يوماً عند البيت ، وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، إذ قال بعضهم لبعض : أيكم يجئ بسلا جزور بني فلان . فيضعه على ظهر محمد إذا سجد . فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط ، فجاء به وانتظر ، فلما سجد وضعه بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ، ويحيل ( أي يميل ) بعضهم على بعض ، وهو ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة وطرحته عن ظهره ، فرفع رأسه ، ثم قال :" اللهم عليك بقريش ". فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم ، وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة ، ثم سماهم رجلاً رجلاً :" اللهم عليك بفلان وفلان ". وقد قتلوا كلهم يوم بدر . وكان عظماء المستهزئين برسول الله
خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن عبد المطلب الأسدي ، والحارث بن قيس الخزاعي ، والعاص بن وائل السهمي ، وقد أخبر الله رسوله
أنه سيكفي شرهم فقال :} إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ { ثم أنزل على كل منهم ما فيه عبرة وعظة . فأما الوليد فكان قد أصابه قبل سنين خدش من سهم ، ولم يكن شيئاً ، فأشار جبريل إلى أثر ذلك الخدش فانتفض ، فلم يزل يؤلمه ويؤذيه حتى مات بعد سنين . وأما الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى رأسه ، فخرج فيه قروح ، فمات منها ، وقيل : أصابه سموم ، قيل : أشار جبريل إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، وانتفخ ، حتى مات . وأما الأسود بن عبد المطلب فلما تضايق رسول الله
من أذاه دعا عليه ، وقال :" اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده " فرماه جبريل بشوك في وجهه حتى ذهب بصره . رومي ولده زمعة حتى مات . وأما العاص بن وائل ، فجلس على شبرقة ، فدخلت شوكة لها من أخمص قدمه ، وجرى سمها إلى رأسه حتى مات . هذه صورة مصغرة لما كان يعانيه رسول الله
والمسلمون من قريش بعد إعلان الدعوة والجهر بها . وقد اتخذ رسول الله خطوتين إزاء هذا الموقف المتأزم .
الأولى : أنه جعل دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي مركز الدعوة والعبادة ومقر التربية ، لأنها كانت في أصل الصفا ، بعيدة عن أعين الطغاة ، فكان يجتمع فيها مع صاحبته سراً ، فيتلو عليهم آيات الله ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة : وبهذا التدبير وقى أصحابة كثيراً من الإحداث التي كان يخشى وقوعها لو اجتمع بهم جهراً وعلانية ، أما هو
فكان يدعو الله ويدعو إليه جهراً بين ظهراني المشركين ، لا يصرفه عن ذلك ظلم ، ولا عدوان ، ولا سخرية ، ولا استهزاء ، وكان ذلك من حكمة الله حتى تبلغ ، ولئلا يقول قائل يوم القيامة : ما جاءنا من بشير ولا نذير .
أشار على المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة ، بعد أن تأكد أن النجاشي ملك عادل لا يظلم عنده أحد . وفي رجب سنة 5 من النبوة هاجر أول دفعة من المسلمين ، وكانوا اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ، رئيسهم عثمان بن عفان الأموي t ومعه زوجه رقية بنت رسول الله
وهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام . خرج هؤلاء الصحابة سراً في ظلام الليل قاصدين ميناء شعيبة جنوب جدة ، وكان من قدر الله أنهم وجدوا سفينتين تجاريتين فركبوهما حتى وصلوا إلى الحبشة . أما قريش فلما علموا بخروجهم هاجوا وغضبوا ، وأسرعوا في آثارهم حتى يلقوا عليهم القبض ، ويردوهم إلى مكة ، ليواصلوا التنكيل والتعذيب ، ويصرفوهم عن دين الله ، ولكن المسلمين فاتوهم إلى البحر ، فرجعوا خائبين بعدما وصلوا إلى الساحل .
وفي رمضان سنة خمس من النبوة أي بعد الهجرة المسلمين بحوالي شهرين خرج رسول الله
إلى المسجد الحرام ، وحول الكعبة جمع كبير من قريش ، فيهم ساداتهم وكبراؤهم ، وكانت قد نزلت عليه سورة النجم ، فقام فيهم ، وأخذ يتلوها فجاءة ، وكان أروع كلام سمعوه قط ، فاندهشوا لروعة هذا الكلام ، وأخذ منهم كل مأخذ ، فبقوا يستمعون إليه مبهوتين ساكتين ، حتى إذا تلا في خواتم السورة زواجر وقوارع طارت لها القلوب ، وتلا في الأخير } فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا { . وخر ساجداً سجد الجميع ، ولم يملكوا أنفسهم . روى البخاري عن ابن مسعود t أن النبي
قرأ سورة النجم ، فسجد بها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، قال : يكفيني هذا . فلقد رأيته بعد قتل كافراً – وهو أمية بن خلف قتل يوم بدر .
وصل هذا الخبر إلى الحبشة ، ولكن في صورة تختلف عن الواقع ، فقد بلغهم أن قريشاً أسلموا ، فرجعوا فرحين مستبشرين إلى مكة ، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار عرفوا جلية الأمر ، فمنهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من دخل مكة سراً أو في جوار أحد من قريش .
واشتد البلاء والعذاب على المسلمين من قريش ندماً على ما فرط منهم من السجود مع المسلمين ، وانتقاماً لما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره للمهاجرين ، ونظراً إلى هذه الظروف القاسية أشار رسول الله
على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى . فهاجر اثنان أو ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من الأولى ، لأن قريشاً كانوا متيقظين يتابعون حركات المسلمين ، إلا أن المسلمين كانوا أكثر منهم تيقظاً ، وأحسن منهم حكمة ، وأحكم منهم خطوة ، فقد فاتوهم إلى الحبشة رغم كل الجهود .
لما منى المشركون بالخيبة والفشل في استرداد المسلمين من الحبشة استشاطوا غضباً ، وكادوا يتميزون غيظاً ، وينقضون على بقية المسلمين بطشاً ، ولا سيما وقد كانوا يرون أن النبي
ماض في دعوته ، ولكنهم رأوا أن أبا طالب قائم بنصرته رغم التهديد والوعيد الشديد ، فاحتاروا في أمرهم ، ولم يدروا ماذا يفعلون ؟ فربما غلبت عليهم الضراوة ، فعادوا إلى التعذيب والتنكيل بالنبي
وبمن بقي معه من المسلمين ، وربما فتحوا باب النقاش والجدال ، وربما عرضوا الرغائب والمغريات ، وربما حاولوا المساومة واللقاء في منتصف الطريق ، وربما فكروا في قتل النبي
والقضاء على دعوة الإسلام . إلا أن شيئاً من ذلك لم يجد لهم نفعاً ، ولم يوصلهم إلى المراد ، بل كانت نتيجة جهودهم الخيبة والخسران ، وفيما يلي نقدم صورة مصغرة لكل من ذلك .
أما إسلام حمزة فسببه أن أبا جهل مر يوماً برسول الله
وهو عند الصفا ، فنال منه وآذاه ، ويقال إنه ضرب بحجر في رأسه
فشجه ، ونزف منه الدم ، ثم انصرف إلى نادي قريش عند الكعبة ، وجلس معهم ، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان تنظر ما حدث من مسكن لها على الصفا ، وبعد قليل أقبل حمزة من الصيد متوحشاً قوسه ، فأخبرته الخبر ، فخرج حمزة يسعى حتى قام على أبي جهل ، وقال : يا مصفر استه ! تشتم ابن أخي ، وأنا على دينه ، ثم ضربه بالقوس ، فشجه شجه منكرة ، وثار لحيان : بنو مخزوم وبنو هاشم ، فقال أبو جهل : دعو أبا عمارة – أي حمزة – فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً . وكان إسلام حمزة أنفة ، كأن اللسان قد سبق إليه دون قصد ، ثم شرح الله صدره للإسلام ، وكان أعز فتى في قريش ، وأقواهم شكيمة ، حتى سمي أسد الله ، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة .
ولما رأى المشركون قوة المسلمين وشوكتهم بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما اجتمعوا لشورى بينهم . وليفكروا في أنسب خطوة يقومون بها في أمر رسول الله
والمسلمين . فقال لهم عتبة بن ربيعة العبشمي – من بني عبد شمس بن عبد مناف ، وكان سيداً مطاعاً في قومه – يا معشر قريش ! ألا أقوم لمحمد فأكلمه ، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا ؟ فقالوا : بلى يا أبا الوليد ! فقم إليه فكلمه . فذهب إلى رسول الله
وهو جالس في المسجد وحده . فقال : يا ابن أخي ! إنك من حيث قد علمت ، من خيارنا حسباً ونسباً ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم ، وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من أبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها . فقال عليه الصلاة والسلام : " قل يا أبا الوليد أسمع " . فقال : يا ابن أخي ! إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً . وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا ، حتى نبرئك منه . فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه . فقال عليه الصلاة السلام : " أو قد فرغت يا أبا الوليد " ! قال : نعم . قال : " فاسمع مني " . قال : أفعل . فقرأ رسول الله
يقرؤها عليه ، وهو يستمع منه ، وقد ألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما ، فلما بلغ رسول اللهr إلى قوله تعالى : } فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ { . وضع عتبة يده على فم رسول الله
وناشد الله والرحم مخافة أن يقع في ذلك ، وقال : حسبك . ولما انتهى رسول الله
إلى السجدة سجد ، ثم قال :" سمعت يا أبا الوليد " ؟ قال : سمعت . قال : " فأنت وذاك " . فقام عتبة إلى أصحابة ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ماهو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة . يا معشر قريش ! أطيعوني واجعلوا لي . وخلوا بين هذا الرجل وبين ماهو فيه ، فاعتزلوه . فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد . قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .
ولما فشل المشركون في هذا الإغراء والترغيب ، فكروا في المساومة في الدين ، فقالوا له :
نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح . قال : " وما هي " ؟ قالوا : تعبد آلهتنا سنة . ونعبد إلهك سنة ، فإن كنا على الحق أخذت حظاً ، وإن كنت على الحق أخذنا منه حظاً ، فأنزل الله – تعالى } قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ { إلى آخر السورة ، وأنزل :} قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ { [ 3964] وأنزل أيضاً : } قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله { . وكان المشركون حريصين على حسم الخلاف ، آملين ما رجاه عتبة بن ربيعة ، فأبدوا مزيداً من التنازل ، ومالوا إلى قبول ما يعرضه رسول الله
ولكن اشترطوا بعض التعديل والتبديل فيما أوحي إليه ، فقالوا : } ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ { فأمره الله تعالى :} قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {
[ 1015] ونبهه الله على عظم هذا ، فقال وهو يذكر بعض ما دار في الخلد النبي
من الخواطر حول ذلك : } وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً{73} وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً{74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً { [17:73:75] وبهذه المواقف الصارمة تبين للمشركين أن النبي
قائم بالدعوة إلى الدين ، وليس بتاجر حتى يقبل المساومة أو التنازل في الثمن ، فأرادوا التأكد من ذلك عن طريق أخرى . فأرسلوا إلى يهود يسألونهم عن أمر النبي
فقالت لهم أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبر فهو نبي مرسل ، وإلا فهو متقول . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإن لهم حدثياً عجبا ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ؟ فسألت عظماء قريش رسول الله
عن ذلك . فنزلت سورة الكهف فيها قصة أولئك الفتية ، وهم أصحاب الكهف . وقصة ذلك الرجل الطواف ، وهو ذو القرنين . ونزل في سورة الإسراء الرد على سؤالهم عن الروح ، وهو قوله تعالى :} وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً { [17:85] وكان هذا الاختبار يكتفي لاقتناع قريش بأن محمداً
رسول حقاً ، لو أرادوا الحق ، ولكن أبي الظالمون إلا كفوراً . وكأنهم لما اتضحت لهم الحقائق ، وتبين لهم الحق ، أبدوا بعض المرونة ، فقد أبدوا استعدادهم لاستماع ما يقوله النبي
علهم يستجيبون ويقبلون ، ولكن اشترطوا أن يخصص لهم مجلس لا يحضره ضعفاء المسلمين . وهم العبيد والمساكين الذين سبقوا إلى الإسلام ، وذلك لأن هؤلاء الكفار الذين طالبوا بذلك كانوا سادات مكة وأشرافها ، فأبوا واستنكفوا أن يجلسوا مع هؤلاء المساكين الذين كانوا أصحاب الإيمان والتقوى . وكأن النبي
رغب في استجابة مطلبهم هذا بعض الرغبة رجاء أن يؤمنوا به ، فنهاه الله عن ذلك ، وأنزل قوله } وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ { [ 6:52]
أوعد المشركين بعذاب الله إن استمروا على مخالفته ، كما سبق – فلما أبطأ العذاب طفقوا يستعجلون به على سبيل السخرية والعناد ، وتظاهروا بأن هذا الوعيد لم يؤثر فيهم ، ولن يتحقق أبداً ، فأنزل الله في ذلك آيات ، منها قوله تعالى : } وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {
[ 22:47] ومنها قوله تعالى } يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ { [ 29: 54] ومنها قوله تعالى :} أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ{45} أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ{46} أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ { . [ 16: 45: 47] وغير ذلك من الآيات . وكان من جملة مجادلة المشركين أنهم كانوا يطالبون بالآيات من المعجزات خوارق العادات عناداً وتعجيزاً ، فأنزل الله في ذلك ما بين به سنته ، وقطع به حجتهم . وسنمر على شئ من ذلك في الفصول القادمة إن شاء الله . تلكم هي المحاولات التي واجه بها المشركون رسالة محمد
ودعوته ، وقد مارسوها كلها جنباً إلى جنب متنقلين من طور إلى طور ، ومن دور إلى دور . فمن شدة إلى لين ، ومن لين إلى شدة ، ومن جدال إلى مساومة ، ومن مساومة إلى جدال ، ومن هجوم إلى ترغيب ، ومن ترغيب إلى هجوم ، كانوا يثيرون ثم يخورون ، يجادلون ثم يجاملون ، ينازلون ثم يتنازلون ، يوعدون ثم يرغبون ، كأنهم يتقدمون ويتأخرون ، لا يقر لهم قرار ، ولا يعجبهم الفرار . وكان عرضهم من كل ذلك كف دعوة الإسلام ولم شعث الكفر ، لكنهم بعد ذلك بذل مل الجهود عادوا خائبين خاسرين ، ولم يبق أمامهم إلا خيار واحد ، وهو السيف ، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة ، ولا يفضي إلا إلى تناحر لعله يستأصل شأفتهم ، فاحتاروا ماذا يفعلون . أما أبو طالب فانه لما واجه مطالبتهم بتسليم النبي
إليهم ليقتلوه ، ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله – مثل ما فعله أبو جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمر بن الخطاب – جمع بني هاشم وبني المطلب ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي
فأجابوه إلى ذلك كلهم مسلمهم وكافرهم ، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة . إلا أبو لهب ، فإنه فراقهم ، وكان مع قريش
زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل ، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ النبي
والقيام دونه كائناً ما كان ، فاجتمعوا في خيف بني كنانة ليدرسوا الموقف الراهن ، ويقضوا فيه ، فاستشاروا ثم استشاروا حتى وصلوا إلى حل غاشم تحالفوا عليه . وهو أنهم لا يناكحون بني هاشم وبني المطلب ، ولا يبايعونهم ، ولا يجالسونهم ، ولا يخالطونهم ، ولا يدخلون في بيوتهم ، ولا يكلمونهم ، ولا يقبلون منهم صلحاً أبداً ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا إليهم رسول الله
للقتل . تحالفوا على هذا القرار ، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في جوف الكعبة وكان الذي كتبها بغيض بن عامر بن هاشم ، فدعا عليه رسول الله
فشلت يده أو بعض أصابعه . وانحاز بعد ذلك بنو هاشم وبنو المطلب في شعب أبي طالب ، سواء في ذلك مسلمهم وكافرهم – إلا أبا لهب – وقطعت عنهم الميرة والمادة . ومنع التجار من مبايعتهم ، فجهد القوم حتى أكلوا أوراق الشجر ، والجلود ، وواصلوا الضر والفاقة ، حتى سمعت أصوات النساء والصبيان يتضاغون جوعاً . ولم يكن يصل إليهم شئ إلا سراً ، فكان حكيم بن حازم ربما يحمل قمحاً إلى عمته خديجة – رضي الله عنها – أما هم فكانوا لا يخرجون من الشعب إلا في الأشهر الحرم ، فكانوا يشترون من العير التي تأتي من الخارج ، إلا أن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في الثمن حتى لا يستطيعوا الشراء وكان رسول الله
على رغم كل ذلك مستمراً في دعوته إلى الله ولا سيما في أيام الحج حينما كانت القبائل العربية تفد إلى مكة من كل صوب .
وبعد نحو ثلاث سنوات قدر الله أن ينتهي هذا العدوان ، فألقى في قلوب خمسة من أشراف قريش أن يقوموا بنقض الصحيفة وفك الحصار ، وأرسل الأرضة ، فأكلت كل ما في الصحيفة من القطيعة والجوار ، ولم تترك إلا ذكر الله – سبحانه وتعالى – . فأما أشراف قريش الخمسة فأولهم : هشام بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لؤي ، ذهب هذا الرجل إلى زهير أبن أبي أمية المخزومي – وهو ابن عاتكة عمة النبي
ثم إلى المطعم بن عدي . ثم إلى أبي البختري بن هشام ثم إلى زمعة بن الأسود . فذكر كل واحد منهم بالقرابة والرحم ، ولا مهم على قبول الجور ، وحضهم على نقد الصحيفة . فاجتمعوا عند خطم الحجون ، واتفقوا على خطة يقومون بها لنقض الصحيفة . وصباحاً حين قامت أندية قريش في المسجد الحرام جاء زهير وعليه حلة ، فطاف بالبيت ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ! نحن نأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم وبنو المطلب هلكي ، لا يبيعون ولا يبتاعون ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة القاطعة . فقال أبو جهل : كذبت ، والله لا تشق . فقال زمعة : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حين كتبت . فقال أبو البختري : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقربه . وقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها . وصدقه أيضاً هشام بن عمرو . فقال أبو جهل : ذا أمر قضي بليل . وتشوور فيه بغير هذا المكان . وكان أبو طالب جالساً في ناحية المسجد ، جاء ليخبرهم أن النبي
أخبره أن الله سلط على صحيفتهم الأرضة ، فأكلت ما فيها من جور وقطيعة وظلم ، ولم تترك إلا ذكر الله . وقال بعد ما أخبرهم بذلك : فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا . قالوا : أنصفت . وقام المطعم على إثر رده على أبي جهل ليشق الصحيفة ، فوجدها قد أكلتها الأرضة ، إلا " باسمك اللهم " وما فيها من اسم الله . فكان ما أخبر به النبي
آية من آيات الله رآها المشركون بأعينهم ، لكنهم لم يزالوا مسترسلين في الغي . آما الحصار فقد انتهى بعد ذلك ، وخرج رسول الله –r ومن معه من الشعب .
عادت الأمور بعد فك الحصار إلى ما كانت عليه من قبل . ولكن ما هي إلا أشهر حتى لحق أبا طالب المرض . وأخذ يشتد ويزداد ، وكان قد جاور الثمانين ، فشعرت قريش أنه لا قيام له من هذا المرض ، فاستشاروا فيما بينهم وقالوا : انطلقوا بنا إلى أبي طالب ، فليأخذ عن ابن أخيه وليعطه منا ، فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شئ فتعيرنا به العرب . يقولون : تركوه حتى إذا مات عمه تنالوه ، فانطلقوا ودخلوا عليه وطلبوا منه أن يكف هو رسول الله
عن آلهتكم ، وهم يدعونه وإلهه . فدعاه أبو طالب وعرض عليه ما قاله القوم . فقال رسول الله
: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية ، ففزعوا وقالوا : كلمة واحدة ؟ نعم ! وأبيك عشراً . فما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، ويقولون : } أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ { .
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.