وبلغ عدد القتلى من اليهود ثلاثة وتسعين قتيلاً ، أما المسلمون فقيل : 15 ، وقيل : 16 ،
وقيل : 18
غزوةخيبر
قدوم مهاجري الحبشة وأبي هريرة وأبان بن سعيد :
ولما رجع مهاجرو الحبشة مع عمرو بن أمية الضمري ، حامل كتاب رسول الله
إلى النجاشي ، اتجه طائفة منهم على خيبر ، وهو ستة عشر رجلاً فيهم جعفر بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري – رضي الله عنهم أجمعين – فوافوا رسول الله
حين فتح خيبر، وقبل أن يقسمها ، فقبل
جعفراً وقال :" والله ما أدري بأيهما أفرح ؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر "، ولما قسم خيبر أعطاهم من الغنيمة ، وأما بقية مهاجري الحبشة فذهبوا مع نسائهم وذراريهم إلى المدينة رأساً . ووافاه أيضاً بخيبر بعد أن تم الفتح أبو هريرة t وكان قد جاء إلى المدينة بعد خروجه
إلى خيبر ، فأسلم ، ثم استأذن وخرج إلى خيبر ، فأعطاه رسول الله
من غنيمة خيبر . ووافاه بعد الفتح أيضاً أبان بن سعيد ، وكان قد خرج بسرية إلى نجد ، فلما قضى مهمته جاء إلى خيبر ، ولم يعط له ولأصحابه من غنيمة خيبر .
ولما حصل اليهود على الأمان جاءوا باقتراح جديد قبل أن يتم جلاؤهم . قالوا : يا محمد ! دعنا في هذه الأرض ، نصلحها ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ، وتعطينا نصف ما يخرج منها من الثمر والزرع ، فرضي بذلك على أن يجليهم منها متى شاء . فبقوا على ذلك حتى أجلاهم عمرو بن الخطاب t حين سلكوا طريق الشر والخبث . وقسم رسول الله
خيبر على ستة وثلاثين سهماً ، وكل سهم مجموع مائة سهم ، فعزل منها النصف ، وهو ثمانية عشر سهماً لنوائب المسلمين ، وقسم النصف الباقي ، وهو أيضاً ثمانية عشر سهماً ، على الغزاة ، فأعطى للراجل سهماً ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهماً له وسهمين لفرسه ، وكان الفوارس مائتين ، فصارت لهم ستة أسهم ، والرجالة ألفاً ومائتين فصار لهم اثنا عشر سهماً . وكانت خيبر غنيمة بالتمر والطعام ، قالت عائشة – رضي الله عنها : لما فتحت خيبر قلنا : الآن نشبع من التمر ورد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم من النخيل بعدما رجعوا من خيبر إلى المدينة .
وبعدما عاد الهدوء ، وذهب الخوف عاد اليهود إلى خبثهم ، وتآمروا على قتل النبي
فأهدوا إلى رسول الله
شاة مسمومة بواسطة امرأة سلام بن مشكم : أحد كبرائهم ، وقد علمت أن رسول الله
يعجبه الذراع ،فأكثرت السم فيه ، وتناول منه رسول الله
ولاكها ، ثم لفظها وقال : إنها شاة مسمومة ، وسأل المرأة واليهود فاعترفوا بجريمتهم ، قالوا : قلنا : إن كان ملكاً نستريح منه ، وإن كان نبياً لا يضره ، فعفا عنهم وعن المرأة ، ثم إن بشر بن البراء بن معرور مات من أجل هذا السم فأمر بقتل المرأة قصاصاً .
فدك قرية في شرق خيبر على بعد يومين ، تعرف اليوم ب" حائط " وكان رسول الله
قد أرسل محيصة بن مسعود إلى يهود فدك بعد وصوله على خيبر ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فأبطأوا عليه ، فلما سمعوا بفتح خيبر داخلهم الرعب ، وطلبوا أن يعامل بهم معاملة أهل خيبر ، فقبل ذلك منهم ، فكانت أرض فدك خالصة لرسول الله
ينفق منها على نفسه ، ويعول صغير بني هاشم ويزوج أيمهم .
غزوةخيبر
وادي القرى :
وسار رسول الله
بعد خيبر إلى وادي القرى ، ودعا أهلها – وهم يهود – إلى الإسلام ، فلم يسلموا ولم يستسلموا ، وخرجوا للقتال ، وبرز منهم رجل فقتله الزبير بن العوام ، ثم آخر فقتله ، ثم ثالث فقتله علي ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، كلما قتل منهم رجل ، دعا البقية إلى الإسلام ، وكلما صلى صلاة دعاهم إلى الإسلام حتى أمسوا ، ثم غدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى انهزموا ، وغنم المسلمون مغانم كثيرة . ثم طلبوا أن يعامل بهم معاملة أهل خيبر ، فقبل ذلك منهم .
ووصل إلى يهود تيماء أخبار خيبر وفدك ووادي القرى ، فصالحوا على دفع الجزية ، ومكثوا في بلادهم آمنين .
غزوةخيبر
زواجه وبناؤه بصفية :
ولما جعلت صفية بنت حيي بن أخطب في السبى أخذها دحية بن خليفة الكلبي بإذن رسول الله
فقال الصحابة لرسول الله
، " إنها لا تصلح إلا لك ، إنها سيدة قريظة والنضير ، فدعا بها رسول الله
، وعرض عليها الإسلام فأسلمت ، فأعتقها وتزوجها ، وجعل عتقها صداقها ، وأسلمها إلى بعض النساء . فلما تم له فتح خيبر ووادي القرى ، وأطاع له أهل فدك وتيماء ، أخذ في عودته إلى المدينة . حتى إذا كان بسد الصبهاء حلت صفية فزفت إليه
، فأصبح عروساً بها ، وأولم عليها بحيس من التمر والأقط والسمن ، وأقام ثلاثة أيام يبني بها . ثم سار حتى قدم المدينة في أواخر شهر صفر أو في شهر ربيع الأول من سنة 7هـ .
من خيبر ، واطمأن بالمدينة سمع بتجمع البدو من بني أنمار وثعلبة ومحارب ، فاستعمل على المدينة عثمان بن عفان t ، وقصد في نحو سبعمائة من الصحابة موضعاً يقال له نخل ، على بعد يومين من المدينة ، فلقي جمعاً من غطفان ، فتقارب الفريقان ، وأخاف بعضهم بعضاً ، ولم يدر القتال ، وأقيمت الصلاة ، فصلى رسول الله
بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فكانت له أربع وللقوم ركعتان ، وهي صلاة الخوف ، ولها صور أخرى مروية في الأحاديث . ثم ألقى الله الرعب في قلب العدو فتفرق جمعه ، وعاد رسول الله
إلى المدينة . وسميت هذه الغزوة بذات الرقاع ، لأن أقدام المسلمين نقبت لأجل المشي ، فلفوا عليها الخرق ، وهي الرقاع ، وقيل : لأن أراضيها وجبالها ذات ألوان مختلفة كأنها رقاع ، قيل : بل هي اسم لمكان الغزوة .
نزل ذات يوم تحت شجرة ظليلة ، فعلق بها سيفه ونام ، وتفرق الناس تحت الأشجار وناموا ، فجاء رجل من المشركين ، فاخترط سيف رسول الله
وهو نائم ، فاستيقظ وهو في يده صلتا . فقال : أتخافني ؟ قال : لا. قال : فمن يمنعك مني ؟ قل : الله .فسقط السيف من يده . فأخذه رسول الله
وقال : من يمنعك مني ؟ قال : كن خير آخذ . فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم . ولكنه أعطى العهد أنه لا يقاتله ، ولا يكون مع قوم يقاتلونه ، فخلى سبيله ، فذهب إلى قومه ، وقال : جئتكم من عند خير الناس . وعامة أهل المغازي يقولون : إن هذه الغزوة وقعت في السنة الرابعة من الهجرة ، والصحيح أنها في السنة السابعة بعد خيبر . لأن أبا هريرة وأبا موسى الأشعري – رضي الله عنهما – كانا في هذه الغزوة ، وهما إنما جاءا إلى النبي
أول مرة بعد فتح خيبر . كما تقدم وقد أرسلت قبل هذه الغزوة وبعدها عدة سرايا لتأمين الطرق وتأديب المعتدين وتفريق المجتمعين ، نطوى ذكرها حتى لا يطول الكلام .
للعمرة التي تم الاتفاق عليها في صلح الحديبية ، واستخلف على المدينة أبارهم الغفاري ، وساق معه ستين بدنة ، وجعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي ، وحمل معه السلاح حذراً من غدر قريش ، واستعمل عليه بشير بن سعد ، وكان معه مائة فرس عليها محمد بن مسلمة . وأحرم من ذي الحليفة ولبى . ولبى معه المسلمون ، وواصل سيرة حتى إذا بلغ وادي يأجج وضع السلاح ، وخلف عليها أوس بن خولي الأنصاري ، في مائتين من الصحابة ، وتقدم بسلاح الراكب : السيوف في القرب . فدخل مكة من ثنية كداء التي تطلعه على الحجون . وهو على ناقته القصواء ، والمسلمون متوشحون السيوف ، محدقون به ، يلبى ويلبون ، حتى دخل المسجد الحرام ، فاستلم الحجر الأسود بمحجنه ، ثم طاف – وهو على راحلته – وطاف معه المسلمون ، ويرملون حول البيت ، كاشفين مناكبهم اليمنى ، شأن الفتوه والقوة ، وعبدالله بن رواحة بين يدي رسول الله
متوحشاً بالسيف ، يقول : خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا ، فكل الخير في رسوله اليوم نضربكم على تأويله كما ضـربناكم علـى تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهـل الخليل عن خليـله وكان المشركون جالسين على جبل قعيقعان – شمالي الكعبة – وقد قالوا فيما بينهم : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتهم حمى يثرب ، فلما رأوا المسلمين يرملون قالوا : هؤلاء أجلد من كذا كذا ، وكان رسول الله
أمرهم أن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأولى ليرى المشركين قوتهم . إلا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود ، فإنه في الجنوب ، في جهة لم يكن يراها المشركون . فلما فزع من الطواف سعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثم نحر هديه عند المروة ، وحلق رأسه ، وكذلك فعل المسلمون ، ثم بعث رجالاً من الصحابة إلى بطن يأجج ليكونوا على السلاح ، ويأتي من بقى هناك من الصحابة فيؤدوا نسكهم . وأقام بمكة ثلاثة أيام تزوج خلالها ميمونة بنت الحارث الهلالية – وكانت زوجة سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب وخالة ابن العباس – فلما بلغتها الخطبة وكل أمرها إلى العباس ، فزوجها العباس بالنبي
، وهو حلال ، فإنه اعتمر أول ما دخل مكة ، ثم حل فبقى حلالاً . وفي صبيحة اليوم الرابع غادر رسول الله
مكة راجعاً إلى المدينة ، فلما بلغ سرف على بعد تسعة أميال من مكة نزل بها وأقام ، وهناك زفت إليه ميمونة – رضي الله عنها – فبنى بها . ثم عاد إلى المدينة فرحاً مسروراً بما حباه الله من تصديق رؤياه ، وشرفه بطواف بيته . ومن عجيب قدر الله أن ميمونة – رضي الله عنها – لما توفيت كانت بسرف فدفنت هناك . وبعد رجوعه
من عمرة القضاء أرسل عدة سرايا إلى جهات متعددة أهمها سرية مؤتة ، ثم سرية ذات السلاسل .
[ جمادي الأولى سنة 8 هـ ] سبق في ذكر كتب رسول الله
إلى الملوك والأمراء أن شرحبيل بن عمرو الغساني كان قد قتل الحارث بن عمير t ، حامل كتاب رسول الله
إلى عظيم بصري ، وكان ذلك بمثابة إعلان الحرب ، فلما بلغ ذلك زيد بن الحارثة ، وقال : إن قتل زيد فجعفر ، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة ، وعقد لواءًا أبيض حمله زيد بن حارثة . وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير فيدعوهم على الإسلام ، فإن أبوا قاتلوهم ، وقال : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، ولا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، ولا امرأة ، ولا كبيراً فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ، ولا تقطعوا نخلاً ، ولا شجرة ن ولا تهدموا بناء . وشيع الجيش إلى ثنية الوداع ، ثم ودعه ، فسار الجيش حتى نزل معان – بجنوب الأردن – فبلغهم أن هرقل نازل بمآب في مائة ألف من الروم . انضم إليهم من متنصرة العرب مائة ألف ، فتشاوروا ليلتين هل يكتبون ذلك إلى رسول الله
ويطلبون منه المدد – إنما يقدمون على الحرب ؟ فشجعهم ابن رواحة بأن الذي تكرهونه – وهي الشهادة – إنما خرجتم تطلبونه . ونحن ما نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة ، وإنما نقاتل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به . وما هي إلا إحدى الحسنيين ، إما الظهور وإما الشهادة ، فقالوا : صدق والله ابن رواحة ، فتقدموا ونزلوا بمؤتة ، وتعبؤوا وتهيؤوا للقتال . ودارت معركة عنيفة ورهيبة ، وعجيبة في تاريخ البشر : ثلاثة آلاف مقاتل يواجهون جيشاً عرمرماً – مائتي ألف – ويصمدون في وجهه . وهذا الكم الهائل من المدججين بالسلاح يهجم عليهم طول النهار ، ويفقد كثيراً من أبنائه وأبطاله ، ولا ينجح في دحرهم . أخذ راية المسلمين زيد بن حارثة فقاتل وقاتل ، ثم قاتل وقاتل حتى شاط في رماح القوم ، وخر شهيداً في سبيل ربه ، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل وقاتل ، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء وعقرها ، ثم قاتل حتى قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، فلم يزل رافعاً لها حتى قطعت شماله ، فاحتضنها بعضديه حتى أبقاها تخفق في جو السماء ، إلى أن قتل بعد أن أصابته بضع وتسعون من طعنة ورمية ، كل ذلك فيما أقبل من جسده ، وجاءت نوبة عبدالله بن رواحة فأخذ الراية وتقدم ، واقتحم عن فرسه المعمعة ،ثم لم يزل يقاتل حتى قتل . وحتى لا تسقط الراية أخذها ثابت بن أرقم وقال للمسلمين : اصطلحوا على رجل ، فاصطلحوا على خالد بن الوليد ، وبذلك انتقلت الراية إلى سيف من سيوف الله ، وتقدم خالد بن الوليد فقاتل قتالاً منقطع النظير حتى انقطعت في يده تسعة أسياف ، وأخبر رسول الله
أصحابه بالمدينة في نفس اليوم بمقتل القواد الثلاثة ، وبانتقال القيادة إلى خالد بن الوليد ، وسماه سيفاً من سيوف الله . وبانتهاء النهار رجع الفريقان إلى مقرهما ، فلما أصبحوا غير خالد t ترتيب العسكر ، فجعل الساقة مقدمة ، والمقدمة ساقة ، والميسرة ميمنة ، والميمنة ميسرة ، فظن العدو أن المدد قد وصل للمسلمين فداخله الرعب ، وبعد مناوشة خفيفة بدأ خالد يتأخر بالمسلمين ، فلم يجترئ العدو على التقدم ، خوفاً من أن تكون خدعة ، فانحاز المسلمون إلى مؤتة ، ومكثوا سبعة أيام يناوشون العدو ، ثم تحاجز الفريقان وانقطع القتال ، لأن الروم ظنوا أن الإمدادات تتوالى على المسلمين ، وأنهم يكيدون بهم ليجروهم إلى الصحراء حيث لا يمكنهم التخلص ، وبذلك كانت كفة المسلمين راجحة في هذه الغزوة . وقتل في هذه الغزوة اثنا عشر رجلاً من المسلمين ، أما عدد قتلى العدو فلم يعرف ، إلا أنهم قتلوا بكثرة .
ونظراً لموقف عرب الشام في معركة مؤتة رأي رسول الله
القيام بعمل حكيم يكيفهم عن نصرة الرومان والقيام بجانبهم ، فأرسل إليهم عمرو بن العاص t في ثلاثمائة من الصحابة ، ومعهم ثلاثون فرساً ، ليستأنفهم ، لأن أم أبيه كانت من قبيلة بلى : إحدى قبائلهم ، فإن أبوا فليلقنهم درساً على قيامهم بجانب الروم ، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعاً كبيراً ، فاستمد من رسول الله
، فأمده بمائتين من سراة المهاجرين والأنصار ، وعليهم أبو عبيدة بن الجراح ، وكان عمرو بن العاص هو الأمير العام وإمام الصلاة ، فدوخ بلاد قضاعة حتى لقي جمعاً ، فلما هجم عليهم فروا وتفرقوا . والسلاسل بقعة وماء وراء وادي القرى ، إليها نسبت هذه السرية ، لأن المسلمين نزلوا بها ، وكان ذلك في جمادي الآخرة سنة 8هـ . أي بعد الشهر الذي وقعت فيه معركة مؤتة .
مكة المكرمة ، وهو الفتح الأعظم ، وأعز الله به دينه ورسوله ، وأنقذ به بيته وبلده ، واستبشر به أهل السماء ، ودخل به الناس في دين الله أفواجاً . وسببه أن بني بكر دخلوا مع قريش في عهد الحديبية ، وكانت بينهم وبين خزاعة دماء وثأرات في الجاهلية اختفت نارها بظهور الإسلام ، فلما وقعت هدنة الحديبية اغتنمها بنو بكر ، وأغاروا في شهر شعبان سنة 8 هـ على خزاعة ليلاً ، وهم على ماء يقال له : الوتير ، فقتلوا منهم ما يربو على عشرين ، وطاردوهم إلى مكة حتى قاتلوهم فيها ، وأعانتهم قريش سراً برجال وسلاح وكانت خزاعة قد دخلت مع المسلمين في عهد الحديبية ، وكان قد أسلم عدد منهم ، فأبلغوا رسول الله
الخبر ، فقال : والله لأمنعنكم مما أمنع نفسي منه . وأحست قريش بسوء فعلتها ، وخافت نتائجها ، فأسرعت بإرسال أبي سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدة ، فلما جاء المدينة نزل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة – رضي الله عنها ، وأراد أن يجلس على فراش أم رغبت به عني ؟ قالت : هو فراش رسول الله
، وأنت مشرك نجس . قال : والله لقد أصابك بعدي شر . ثم جاء رسول الله
فكلمه فلم يرد شيئاً ، فذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله
فقال : ما أنا بفاعل . فأتى عمر فأبى ، وشدد في الكلام ، فأتى عليا فاعتذر ، وأشار عليه أن يجير بين الناس ويرجع ، ففعل . أما رسول الله
فتجهز للغزو ، وأمر أصحابه بذلك ، واستنفر الأعراب الذين حول المدينة ، وكتم الخبر ، ودعا الله :" اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش ، حتى نبغتها في بلادها " . وزيادة في الكتمان أرسل أبا قتادة t في أوائل رمضان إلى بطن إضم ، وعلى بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، ليظن الظان أنه يريد هذه الناحية . وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بمسير رسول الله
إليهم ، وأعطاه امرأة على جعل ، فأتى رسول الله
الخبر من السماء ، فأرسل عليا والمقداد والزبير ومرثداً الغنوي ، وقال : انطلقوا إلى روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها ، فأتوها وطلبوا ]فأتوا به رسول الله
، فقال : ما هذا يا حاطب ؟ فأعتذر بأن في مكة أهلاً وعشيرة وولداً ، وليست له فيهم قرابة يحمونهم لأجلها ، فأراد أن يتخذ عندهم يداً يحمون بها أهله ، ولكم يفعله ارتداداً عن الإسلام ، ورضىً بالكفر ، فقال عمر ، دعني يا رسول الله
أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله ، وقد نافق . فقال
:" إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر ، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، فذرفت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم .
المدينة ، متجهاً إلى مكة ، ومعه عشرة آلاف من المسلمين ، واستعمل على المدينة أبا رهم الغفاري . ولما بلغ الجحفة لقيه عمه العباس من أهله مسلماً مهاجراً ، وبالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وابن عمته عبدالله بن أبي أمية فأعرض عنهما ، لأنه كان يلقى منهما شدة الأذى والهجو ، فقالت له أم سلمة : لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك ، وقال علي لأبي سفيان : ائته من قبل وجهه ، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } . ففعل ، فقال
:{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } . فأنشده أبو سفيان أبياتاً مدحه فيها واعتذر عما فعل به سابقاً . ولما بلغ كديداً ورأى أن الصوم شق على الناس أفطر ، وأمر الناس بالإفطار ، ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران عشاء ، فأمر الجيش فأوقدوا عشرة الآف نار ، كل على حدته ، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب t . وخرج أبو سفيان خائفاً يترقب ، ولا يعلم شيئاً ، ومعه حكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، فلما رأى النيران قال : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال بديل خزاعة ، قال أبو سفيان : خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها .
يتجول ، فلما سمع الصوت عرفه فقال : أبا حنظلة ؟ فقال : أبا الفضل ؟ قال : نعم . قال : مالك ؟ فداك أبي وأمي . قال : هذا رسول الله
في الناس ، واصباح قريش والله . قال : فما الحلية ؟ فداك أبي وأمي . قال : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك . فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله
فركب ، فلما مر بعمر بن الخطاب رآه فقال : أبو سفيان ؟ عدو الله ؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، واشتد إلى رسول الله
، وركض العباس البغلة فسبق إلى رسول الله
، ثم دخل عمر واستأذنه في ضرب عنق أبي سفيان ، فقال العباس : إني أجرته ، وأخذ برأس رسول الله
وقال : لا يناجيه الليلة أحد دوني . وأكثر عمر ، ورسول الله
ساكت . ثم قال للعباس : اذهب به إلى بيتك . فإذا أصبحت فأتني به . فلما جاء به الصبح قال رسول الله
: " ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله " . قال أبو سفيان : ما أحلمك وأكرمك وأوضلك ، ولو كان معه إله غيره لأغنى عني شيئاً بعد . قال :" ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ". قال : أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شئ . فقال العباس : أسلم قبل أن تضرب عنقك ، فأسلم وشهد شهادة الحق . فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً . قال . " نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ".
إلى مكة ، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل ، حتى تمر به جنود الله فيراها ، ففعل ، فمرت القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلة قال : يا عباس ! من هذة ؟ فيقول : بنو فلان . ( مثلاً بنو سليم ) فيقول : ما لي ولبني فلان . حتى مرت كتيبة الأنصار ، يحمل رايتها سعد بن عبادة فقال : يا أبا سفيان ! اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة . فقال : يا عباس ! حبذا يوم الذمار . ثم مر رسول الله
في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرين والأنصار ، ولا يرى منهم إلا الحديد ، فقال : سبحان الله ! يا عباس ! من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله
في المهاجرين والأنصار ، قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة . لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً . قال العباس : يا أبا سفيان ! إنها النبوة . قال : نعم إذن ثم أخبر رسول الله
بمقالة سعد ، فقال
:" كذب سعد . هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسي فيه الكعبة ". وأخذ الراية من سعد ، ودفعها لابنه قيس . وبعد مروره
أسرع أبو سفيان حتى دخل مكة ، وصرخ لأعلى صوته : يا معشر قريش ! هذا محمد ، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، قالوا : قاتلك الله . وما تغني عنا دارك ؟ قال : ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ، فأسرع الناس إلى بيوتهم وإلى المسجد الحرام . ولما وصل رسول الله
إلى ذي طوى أمر خالد بن الوليد قائد الميسرة أن يدخل مكة من أسفلها من طريق كدى ، وإن عرض له أحد يحصده حصداً حتى يوافيه على الصفا . وأمر الزبير قائد الميمنة وحامل راية رسول الله
أن يدخل مكة من أعلاها من كداء ، ويغرز رايته بالحجون ، ولا يبرح حتى يأتيه رسول الله
، وأمر أبا عبيدة قائد الرجالة ومن لا سلاح له أن يأخذ بطن الوادي حتى ينزل يدي رسول الله
. ووبشت قريش أوباشا بالخندمة ، قالوا : إن كان لهم شئ كنا معهم ، وإلا أعطينا الذي سئلنا . فلما مر بهم خالد حصد اثني عشر منهم في مناوشة خفيفة . وفر الباقون . ثم تقدم خالد يجوس مكة حتى وافي رسول الله
على الصفا ، وقتل من رجاله اثنان ضلا الطريق وشذا عنه . أما الزبير فنصب الراية بالحجون عند مسجد الفتح ، وضرب قبة فيها أم سلمة وميمونة t ، ولم يبرح حتى جاء رسول الله
، فاستراح قليلاً ، ثم سار ، وبجانبه أبو بكر t يحادثه ، وهو يقرأ سورة الفتح ، حتى دخل المسجد الحرام ، وحوله المهاجرون والأنصار ، فاستلم الحجر الأسود وطاف بالبيت وهو على الراحلة ، ولم يكن محرماً ، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } ، والأصنام تتساقط على وجوهها .
فلما فرغ من الطواف دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ، وأمر بفتحها ، ثم أمر بما فيها من الأصنام فأخرجت وكسرت ، وأمر بما فيها من الصور فمحيت ، ثم دخلها هو وأسامة بن زيد وبلال ، فأغلق الباب ، واستقبل الجدار الذي يقابله ، وهو على بعد ثلاثة أذرع ، وعن يساره عمود وعن يمينه عمودان ، ووراءه ثلاثة أعمدة ، فصلى ركعتين ، ثم دار في البيت ، وكبر في نواحيه ، ووحد الله .
ثم فتح الباب ، وكانت قريش قد ملأت المسجد الحرام صفوفاً، فأخذ بعضادتي الباب فخطب خطبة بليغة بين فيها كثيراً من أحكام الإسلام ، وأسقط أمور الجاهلية ، وأعلن عن ذهاب نخوتها ، ثم قال : " يا معشر قريش ! ما ترون أني فاعل بكم " . قالوا : خيراً . أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال :" لا تثريب عليكم اليوم . اذهبوا فأنتم الطلقاء ". ثم نزل وجلس في المسجد الحرام ، ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ، وقال : خذوها خالدة تالدة ، ولا ينزعها منكم إلا ظالم .
ثم أتى الصفا فعلا عليه حيث ينظر على البيت ، فرفع يديه يدعو ، ثم بايع الناس على الإسلام .وممن أسلم يومئذ أبو قحافة والد أبي بكر الصديق t ففرح رسول الله
بإسلامه ، ثم بايع النساء بعد الرجال على : ] أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [ . وممن بايع يومئذ من النساء هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان ، جاءت متنقبة متنكرة ، خوفاً على نفسها مما كانت قد فعلت بنعش حمزة ، فلما تمت لها البيعة قالت : يا رسول الله ! ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك ، فقال رسول الله
:ـ " وأيضاً والذي نفس محمد بيده " . وكان عمر بن الخطاب t قد جلس أسفل من مجلس رسول الله
يبلغ الناس ويبايعهم عنه ، وكانت بيعة النساء كلاماً بغير مصافحة . وقد جاء بعض الناس ليبايعوا رسول الله
على الهجرة فقال : " ذهب أهل الهجرة بما فيهم ، ولا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " .
قد أهدر يومئذ دماء أناس عظمت ذنوبهم ، وكبرت جرائمهم ، فأمر بقتلهم حتى ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة ، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فمنهم من حقت عليه كلمة العذاب وقتل ، ومنهم من أدركته عناية الله فأسلم ، فأما الذين قتلوا فهم : ابن خطل ، ومقيس بن صبابة ، والحارث بن نفيل ، وقينة لابن خطل ، أربعة نفر ، يقال : أيضاً الحارث ابن طلاطل الخزاعي ، وأم سعد ، مع احتمال أن تكون أم سعد هي مولاة ابن خطل ، فإذن خمسة أو ستة نفر . وأما الذين أسلموا – وكانوا قد هربوا أو اختفوا ، ثم استؤمن لهم فجاؤوا وأسلموا – فهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبر بن الأسود ، وقينة أخرى لابن خطل ، أربعة نفر ، قيل : وأيضاً كعب بن زهير ، ووحشي بن حرب ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان . سبعة نفر . واختفى آخرون خوفاً على أنفسهم دون أن يكون قد أهدرت دماؤهم ، منهم صفوان بن أمية ، وزهير بن أبي أمية ، وسهيل بن عمرو ، ثم أسلم هؤلاء كلهم ، ولله الحمد .
ضحى في بيت أم هانئ بنت أبي طالب t ، فاغتسل وصلى ثمان ركعات صلاة الفتح ، يسلم في كل ركعتين ، وكانت أم هانئ قد أجارت حموين لها ، وأراد علي بن أبي طالب t أن يقتلهما ، فسألت رسول الله
بلالاً ، فأذن على ظهر الكعبة ، وكان ذلك بمثابة إعلان عن ظهور الإسلام ، وقد راع ذلك المسلمين بقدر ما أغلظ المشركين ، والحمد لله رب العالمين .
الفتح الأعظم : فتح مكة المكرمــة
إقامة رسول الله بمكة :
ولما تم فتح مكة تخوف الأنصار أن يقيم بها رسول الله
، لأنها بلده وبلد عشيرته وقومه – وذلك حين كان رسول الله
على الصفا ، رافعاً يديه يدعو – فلما فرغ من الدعاء قال لهم : ] معاذ الله ، المحيا محياكم والممات مماتكم [ فاطمأن الأنصار وذهب خوفهم وفرحوا . نعم . بقي رسول الله
بمكة تسعة عشر يوماً يجدد معالم الإسلام ، ويطهرها من آثار الجاهلية ، وقد جدد أنصاب الحرم ، ونادى مناديه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره .
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.